إن التوجه الى إحالة من بلغ المدة القانونية للتقاعد، سواء شرط السن أو الخبرة أمر صحي، من شأنه ضخ دماء جديدة بفكر جديد، ونهج جديد، الأمر الذي يؤدي إلى نمو العمل، ومواكبة التقدم والتطور السريع، حقيقة لا يختلف عليها اثنان من المحالين للتقاعد، ولو عاد بهم الزمن للوراء لكانوا مؤيدين لهذا القرار، فلو لم يحال السابقون للتقاعد لما أصبحوا هم اللاحقون، وكما يُقال “لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك”.
بطبيعة الحال، لكل عملة وجهان، الإيجابي والسلبي، فالإيجابية هنا تكمن في التجديد، أما السلبيات عديدة، عند الاستغناء عن أصحاب التجربة سوف يؤدي إلى فجوة في المعرفة داخل المؤسسة، فخبراتهم لم تأت بسهولة، بل نتاج لسنوات من العمل الذي تكلله الخطأ قبل الصواب، العمل الجماعي، وليس الفردي، روح الفريق الواحد، وهي روح المؤسسة، هذا القرار شكل نقطة تحول في مسارات عمل المؤسسات لما يخلفه من فقد، فقدت المؤسسة السفراء الذين تراكمت لديهم سنوات عديدة من التجارب، فقدت من شارك في تطويرها، ونموها، وأثّر في تشكيل ثقافتها وستراتيجيتها، فقدت من ساهم في تحقيق أهدافها، فقدت من عاصر الأزمات وشارك في كيفية اتخاذ القرارات.
والشر الذي لا بد منه هو التأثير السلبي على الأجيال الجديدة، فالموظفون حديثو التعيين يتكئون على التوجيه والإرشاد من الأشخاص ذوي الخبرات الواسعة، لذلك، كان من الأجدر وصل الجسر بين الخبرة والحداثة، أي وصل الخبرات مع أصحاب الرؤى المتجددة من أصحاب الدماء الجديدة.
كان على الجهات المسؤولة عن موظفي القطاع الحكومي في الدولة دراسة إمكانية الاستفادة منهم، وكان بالإمكان تعيين المتميزين منهم في المكاتب الفنية التابعة لأصحاب القرار في المؤسسات كمستشارين، بمدة زمنية محددة لا تزيد عن خمس السنوات، وهكذا هناك من هم قادمون ومن هم مغادرون، وبالتالي يتم التأكد والحرص على نقل العلم والمعرفة والخبرة – التي لم تذكر في المراجع مسبقا- للجيل الجديد باستمرار، كما يمكن الاستفادة منهم في برنامج تدريبي داخلي خاص لكل شخص منهم على حده وفق تخصصه، ومجال عمله، لنقل خبرته ومعرفته الى موظفي المؤسسة.
إن هؤلاء يمثلون قيمة مضافة للمؤسسة، وهذا ما نجده في القطاع الخاص الذي يتنافسون في ما بينهم بضم المحاربين القدامى، لما لديهم من معرفة وخبرة، كذلك علاقاتهم في محيط العمل، وكلما ارتفعت مميزاته زادت قيمته، لذلك يتميز هذا القطاع بتطبيقه ستراتيجيته وتحقيق أهدافه، ومواصلة التقدم، ومواكبة التطور، لأنه مدعم بفريق من أجيال مختلفة، تتلاقى عند نقطة واحدة، وهي استثمار الكفاءات والخبرات.
وكما قال نجيب محفوظ “الحياة لا تعطي دروسا مجانية لأحد، فحين أقول علمتني الحياة تأكد أنني دفعت الثمن”، لذلك، لا بد أن نتعلم من الدروس التي تعرض لها الآخرون، ولنعتبر كل عام جديد في حياتنا الوظيفية “عام التعيين”، نمارس المهنة بشغف، نُعطي ونرغب في إعطاء المزيد، نتعلم من أصحاب الخبرات، وننهم المزيد، ولنعتبره في الوقت ذاته “عام التقاعد”، ننقل المعرفة للدماء الجديدة.
ولنكن مستعدين للرحيل قبل الموعد القانوني للتقاعد، بهذه الطريقة، نكون قد أكرمنا أنفسنا، إن لم تُكرّم من قبل الآخرين، وختاما؛ دُمتم فخرا وذخرا يا منابع التجربة والخبرة.
Comments