للمرة الاولى أكون في حيرة من أمري عن الموضوع الذي سأتناول بمساحتي في “السياسة”، هل أكتب عن القيم المستفادة خلال العام المنصرم، أم عن كيفية بداية عامٍ جديد؟ لكنني وجدت نفسي أكتب عن تجربة حقيقية مررت بها خلال العامين الماضيين، فالقصص الحقيقية هي أفضل وسيلة لإيصال الدروس المستفادة.
كان حُلْمَ والدي أي يُكملَ أحدُ أبنائه الدراساتُ العليا، وبما أَنني “آخر العنقود” كان جُلَّ حُلُمِهِ مصبوباً عليَّ، لذلك وفي عام 2005، وبعد حصولي على البكالوريوس في الهندسةِ المدنيةِ من جامعةِ الكويت، قررتُ إكمالَ دراسةِ الماجستير في الإدارة، وباشرتُ تقديم أوراقي ومن ثَمَّ ترددتُ، لانشغالي في الوظيفةِ الجديدةِ، وتوجيه قدراتي في عملي الحكومي من جهةٌ، وعَملي التطوعّي من جهةٍ أخرى، وكل يومٍ كنتُ أُجدد العهدِ لوالدي باستكمال الحصيلةِ التعليمية، ولَمْ أفعل، حتى عام 2021.
أي بعدَ خمسةَ عشرَ عاما، بعدما كانت مسيرتي زاخرة بالإنجازات والعطاء في مختلف المجالات، سواء في محيط عملي أو الإدارات الأخرى، بعدما أفنيت عمري بين أروقة الوزارة أعطي، ولم أنتظر مقابلا، بعدما كنت أُنظّم الفعاليات وأقف خلف الكواليس ليتم تتويج غيري، بعدما كنت أفتخر أنني وفريقي ادينا عملا ما تؤديه شركات كُبرى، بعدما كنت “أبيض وجه” مسؤولي وكيل الوزارة، آنذاك، عندما يتم تكليفي بمهمات خارجية، لأنه كان دائم القول “أفراح واقطع”.
وسُنه الحياة، يذهب وكيل وزارة، ويأتي آخر، وما زلت أستمتع وأنا أعطي، علما أنه تردد الكثير على مسامعي، عن مقترح ترك عملي بالقطاع الحكومي والتوجه للقطاع الخاص، لأنه يقدر الكفاءات، لكنني كنت أرفض بشدة، إلى أن، وبقرار من وزير جاء بوكيل وزارة من خارج أسوارها، لا توجد معرفة سابقة بأبنائها المخلصين الأكفاء، فكان من السهل تأدية البعض عليه دور الناصح الأمين، وكان قرار الوزير ذاته نقل مدير مكتبه الحالي، لأنه يرغب بتعيين مدير مكتب آخر.
المضحك في الموضوع أن كل مديري مكاتب الوزراء التحقوا بالعمل بالوزارة عبر”البراشوت”، فقط لأنهم مرافقو الوزير، وبالتالي أصبحوا مديري مكاتب “معالي” الوزير، لأن مكتب معاليه مستثنى من أي شرط خاص بشغل الوظائف الاشرافية، ونظرا الى عدم وجود نص واضح، وصريح من ديوان الخدمة المدنية يمنع تدوير مديري مكاتب الوزراء، إلا بعد استيفاء الشروط اللازمة، تم تدوير من جاء بـ”البراشوت”، وأخذ دوري في الترقية، وما كان منه إلا أن “يتسلط” عليَّ، وحرمني تدريجيا من دوري الوظيفي حتى أصبحت لا أعرف من هم موظفو قسمي، ولا أي شأن خاص بهم، ولو أسرد ما فعَل لربما احتاج صفحات، وليس عمودا!
جميع من حولي استنكر، ويتساءل: هل أنتِ أفراح التي عهدناها، مستسلمة للأمر الواقع راضية؟ وكانت إجابتي دائما الاستشهاد بالمثل المصري “اربط الحمار أجلكم الله وين ما يبي صاحبه، وأنا حياتي صارت مليانة حمير أمشي وأربط”، لأنني كنت على قناعة تامة أنني خسرت معركة، لكنني لم أخسر الحرب بعد.
وكانت هذه الخيرة بالنسبة لي، حيث إنه توفى والدي في الفترة نفسها، وكأن الله منحني إجازة من إنجازاتي في عملي الحكومي، فساعدني ذلك على توجيه امكانياتي الى التحصيل العلمي، وتحقيق رغبة والدي، رحمه الله، وحصولي على شهادة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف.
الجميل بالموضوع أن من جاء بالبراشوت وعاث في الأرض فسادا انتقل لجهة حكومية أخرى، مع وزير آخر، ليتربع على منصب ضحية أخرى، لذلك أنقل العبرة وأوصي زملائي الموظفين في القطاع الحكومي خصوصا، بعدم الاستسلام، ومواجهة العقبات، ومعرفة كيفية تسخير امكاناتهم لمواجهة الظروف الصعبة، وتحويلها فرصة للتطوير، فبالنهاية لا يصح إلا الصحيح، أنا الباقية وهو من رحل لأن ولاءه ليس للمؤسسة، بل للأشخاص.
وشخصيا، لولا “أشباه المسؤول” الظالم لما تمكنت من تحقيق طموحي العلمي، لذلك أهدي جزءا من هذا الانجاز له!
جريدة السياسة - ٢٨ ديمسبمر ٢٠٢٣
Comments